نعيش هذه الأيام عزلًا وحظرًا فرضته ظروف الحال التي لا تخفى على أحد، حتى بات كل إنسانٍ يخاف على نفسه مِن كل مَن حوله وما حوله، ولأول مرة أيها القارئ أشعر أنا –وأظنك مثلي- بنوعٍ من التوجُّس حينما تمرُّ علينا بعض الأمور الطبيعية كالعُطاسِ ونحوه، وهذا كله وغيره يعرفه الجميع، ويتذكَّرون الأيام الخالية كيف كان الناس وأين أصبحوا بين عشيَّةٍ وضحاها، (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وإليه تُرجعون).
لا أريد أن أطيل في هذا المجال؛ فما يشعر به كل الناس يكفي عن كل قولٍ وشعرٍ وتصوير، ولكني أريد التنبيه على أمرٍ في غاية الأهمية وهو (الاستثمار)، فنحن جميعًا أصبحنا في عزلٍ طوعًا أو جبرًا، وبقينا داخل البيوت طلبًا للسلامة، وأقول أن هذه فرصة مثالية لأن تلتفت إلى أمورٍ طالما انشغلت عنها أو تشاغلت، وهي من الأهمية بمكان، فاستثمر الوقت والحال، واغتنم جلوسك في البيت، ولا تملّ من ذلك، ولعله خير أراده الله لك ولأحبابك، وبداية تغييرٍ للأحسن في أكثر من مجال، فالبعض يقول: أن العالم بعد زمن كورونا سيكون مختلفًا جدًا عما قبله، وفي كل المجالات، وما يهمنا أن أكون أنا وأنت في هذا الزمن وما بعده غير ما كنا قبله؛ وذلك بالتميز والإيجابية والاستثمار الأمثل لكل ما معنا من إمكانيات، وما نمتلكه من قدرات، وما نحن مسؤولين عنه من مالٍ وأهلٍ وأولاد وأعمال.
وقد كتب الكثير وأشاروا إلى مثل ما أشرتُ إليه، ولكني أردتُ الإسهام والمشاركة بما يجيش في خاطري؛ علَّ الله ينفعني ومن يقرأ كلماتي، ويكتب لنا الأجر والتوفيق بإذن الله.
وحيث إن الناس فريقين؛ فريق يعيش مع أهله وأولاده، وفريق يعيش في غربة عنهم، بعيدًا يطلب اللقمة الحلال، فالنصائح الآتية هي للجميع.
أولًا: لا تتضجَّر أو تتذمَّر، واعلم أن هذا تقدير الله تعالى، فليس هناك من أمرٍ يحصل في كونه إلا بتقديره (ألا له الخلق والأمر) (كل يومٍ هو في شأن).
ثانيًا: لعل ما يحصل خيرًا لا تعلمه وإن كنت لا تراه أو تراه شرًا (وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
ثالثًا: إن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده بأمورٍ بين الحين والآخر ليعودوا إليه، ويعلموا يقينًا –كمثلهم في هذه الأيام والظروف- أنه لا مُنجي إلا هو، ولا قدرة إلا قدرته سبحانه، وكل ما عدا ذلك هباء، ولا تظهر للناس معاني أسماء الله وصفاته إلا في مثل هذا الشدائد، وما أعظم وأجمل موقف رفع الناس أصواتهم بــ (الله أكبر) النافعة الدائمة الباقية، ونحن في كل صلاةٍ وكل وقتٍ نرددها دون الشعور الحقيقي بمعناها وعظمتها ونفعها (وهو القاهر فوق عباده).
رابعًا: ما يحصل اليوم ويحيِّر العالم دافعًا لكل مؤمنٍ بالله أن يطمئن بإيمانه، ويفخر بإسلامه، ويرفع رأسه بتعلقه بربه وشريعته، بعيدًا عن المظاهر الخادعة، أو أبواق التشكيك والتشويه والاستهزاء التي تُطلق على الشريعة والمقدسات بين كل آونة وأخرى، فهي كلها هباء هي وأصحابها، ولا بقاء إلا للحي القيوم ودينه وكلماته وقدرته (قل إن هدى الله هو الهدى).
خامسًا: ما يحصل اليوم فرصة لكل مقصِّر في حق الله، أو كل متعدٍّ لحق عباده؛ أن يعود إلى الله قبل فوات الأوان، وأن يعيد المظالم قبل حصول الفجأة، فأمر الله قد يأتي أي وقت، ومن حيث لا يشعر أحد، وانظر: شيءٌ لا يُرى أرهق كل الورى! (وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر).
سادسًا: إن كنتَ في عافية فاحمد الله على العافية التي تتمتع بها، ويفقدها غيرك ويتمنى لو أنه مثلك، وإن كنت مُبتلىً بنوعٍ من المرض فنسأل أن يشفيك، وعليك أن تطلب من الله العافية، وأن تلجأ إليه، وتحمد الله أيضًا أن ما عندك أهون بكثير مما هو عند غيرك، وفي كل حالٍ عليك الالتزام بقوانين الجهات المعنية؛ حفاظًا على سلامتك وسلامة الآخرين (غير أن عافيتك أوسع لي).
سابعًا: لعله من الخير لك ولأهلك وأحبابك أن تبقى عندهم في البيت هذه الأيام، فهي فرصة لأن تراجع نفسك في معاملتك مع زوجتك وأولادك، أو أهلك الآخرين، ولا تقل كذلك الشخص الذي خرج الشارع (كورونا أهون من زوجتي)؛ فلا تبالغ في الأمر، واسأل الله العافية فهي أوسع لك، وقد لا تشعر بذلك إلا حين تُصاب بمرضٍ تتمنى عندها أن لو التزمت، وبقيت مع زوجتك التي تقول عنها أنها أشد عليك من كورونا، بل هذا أجدر أن تعيد إصلاح علاقتك بها، وتبحث عن المودة والرحمة التي جعلها الله بينكم، فما غابت إلا بتقصيركما مع بعضكما أو بتقصير أحدكما، فراجع ذلك حتى تصل بحالك معها أن تخاف عليها من كورونا وغيره، فالله قد جعلها لك لباسًا وسكنًا، لا كورونا يا صاحبي. (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة).
ثامنًا: الجلوس في البيت فرصة أيضًا لك أيتها الزوجة؛ أن تهتمي بزوجك حقًا، في كل المجالات، وتهتمي بنفسك وأولادك…اجعلوا البيت بيت نور وخير وبركة، بتلاوة القرآن، وحفظ ما تيسر منه، وذكر الله، ومراجعة دروس الأولاد، وتعليمهم بعض المهارات، وتقاسموا الأدوار بينكم في ذلك، واعطوا أولادكم قيادة بعض الأعمال؛ زرعًا للثقة، وصقلًا للمهارة، وحافظوا على الصلاة معهم جماعة في البيت، وقدموهم للصلاة بكم، ومع ذلك يكون لديكم أوقات للألعاب الجماعية معهم، فقد ابتعدت الأسر وأفرادها كثيرًا عن ذلك بسبب الأعمال، وبسبب الإنترنت والجوال. (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب).
تاسعًا: حاولوا الابتعاد قدر الإمكان عن الإنترنت ومواقع التواصل والانشغال بالإلكترونيات، واجعلوها بداية فرصة للتغيير الإيجابي، والانسجام الاجتماعي في أسرتكم الصغيرة، فهي فرصة للاقتراب من أولادكم وصداقتهم، وكلما اقترب الأب والأم من الولد أو البنت؛ كلما ضمِن استقامته وتميزه وطاعته، وكلما ابتعدَ أخَذَه الغير من شياطين الإنس والجن نحو الضياع أو عدم النفع والانتفاع. (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا).
عاشرًا: من كان بعيدًا عن أهله أيضًا؛ يستطيع أن يستثمر وقته منفردًا بما يناسب مما ذكرنا سابقًا، بالإضافة إلى التواصل مع أهله وأولاده ومتابعتهم في برامج تفيدهم، فيشجعهم ويشجعونه، والسعيد من أفاد واستفاد، وخاصة لنفسه والأهل والأحباب، ومن أراد شيئًا صادقًا وعمل عليه جاهدًا يسَّر الله له أسبابه، وأعانه على حاله. (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).
حادي عشر: هذه الأزمة بإذن الله ستمر وتنتهي، وليس عليك تغيير العالم، ولكن عليك تغيير نفسك للأفضل، فأنت مسؤول عليها هي، فتخيل بعد انتهاء الأزمة ما هي النتيجة التي ستصل أنت وأهلك وأولادك إليها؛ هل استفدتم من فرصة بقائكم في البيوت مجتمعين؟ هل أثَّرت عليكم الأحداث إيجابًا أو سلبًا؟ هل استطعتم أن تجعلوا هذه الأيام بداية للتغيير، والتعوُّد على الأمور الطيبة؟ اسأل نفسك هذه الأسئلة من الآن واعمل على نتائجها حتى تكون طيبة، وتكون نفسك بما حققته طيبة، قبل أن يأتي يومٌ لك في الدنيا أخير، فتتمنى لو أنك فعلت وفعلت. (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم).
ثاني عشر: أذكِّرك باستثمار الوقت، وبأن تعلم أن كثيرًا ممن قدَّموا إنتاجات علمية للأمة؛ قدَّموها وهم في سجنٍ أو عزلٍ أو نفي وما شابه، فقدِّم ما استطعت، وجاهد نفسك، وأفضل ما شغلت به وقتك أنت وأهلك وأولادك هو كتاب الله (وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا) هل تعلم ما معنى أن الله أوحى كتابه روحًا من أمره! فتأمل كلام الله واستمتع بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، فهي علم ومُتعة وفائدة وأجر وتوفيق وهدى ونور وضياء وبركة ورحمة في الدنيا والآخرة. (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).
ختامًا؛ أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن يقرأ ويستمع فينفع وينتفع، ويتبع أحسن الحديث، كما أسأله أن يرزقنا التوفيق والقبول، وأن يجنِّبنا كل سوءٍ ومكروه نحن وأحبابنا جميعًا، ويغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين، ويحفظ بلادنا أجمعين.
والحمد لله رب العالمين
د. محمد علي السبأ
26/3/2020